من قلب منطقة الحجاز، تحديداً مدينة جدة، حملت
الرسامة السعودية سارة العبدلي تراثاً حجازياً زاخراً بالفنون الأصيلة للحضارة العربية والإسلامية، نمت بداخلها تقديراً واعتزازاً لهذه الأرض الأصيلة، بفنونها وعمارتها التي تتبدى بأصالة وعمق في إبداعاتها.
هذه الأصالة والأسلوب الاستثنائي، حفّزنا لنجري معها مقابلة نتعرف فيها إلى رؤيتها ورسالتها، ونحاول
الاقتراب من شخصيتها وأحلامها قليلاً. وقد ألهمتنا هذه المقابلة الكثير كما ستلمسين بنفسك خلال السطور التالية.
في البداية، عرّفينا إلى نشأتك وتخصّصك الدراسي
أصولي ترجع إلى مكة، ولكني نشأت في جدة وأقيم حالياً فيها. تخصصت في الفنون الإسلامية التي درستها في مدرسة الأمير تشارلز للفنون الاسلامية والتقليدية في لندن حيث أكملت دراستي العليا وحصلت على درجة الماجستير.
متى اكتشفتِ أنك تمتلكين موهبة الرسم؟
كنت أرسم من سن مبكرة جداً، فلطالما استهوتني الفنون بشتى أنواعها خاصة الرسم. ومنذ الصغر وأنا أبحث عن أي دورات تعليمية لتطوير نفسي في الرسم؛ فبدأت بالرسم بالألوان الزيتية ومن ثم جرّبت أنواعاً مختلفة بعد ذلك.
لماذا اخترت الرسم وسيلة لك للتعبير؟ بم تشعرين وأنت ترسمين واحدة من إبداعاتك؟
في صغري، كنت أشعر بالوحدة أحياناً، فكان الرسم هو متنفسي وأظن أن تلك كانت بداية انطلاقتي في هذا العالم. أما الآن، فاختلف منظور ممارستي للفن؛ إذ أرى الرسم أصدق وسيلة ممكنة للفنان أن يعبّر بها عن نفسه وعن زمنه؛ كما أن الرسم قد أصبح لغة شخصية لي، أجد من خلالها مفردات لا يسعني إيجادها في الكلام. فأنا أؤمن أن للوحات الفنية روحها الخاصة، تطغى إحدانا على الأخرى خلال مرحلة خلق عمل جديد، فغالباً العمل الفني يفرض وجوده عليّ شخصياً وانا أنفذه بلا تحكّم. باختصار، يمكنني القول إن الرسم وإبداع لوحة هي رحلة فلسفية من الصعب اختزالها في سطور.
هل تتبعين مدرسة فنية معيّنة؟ ومن هم الفنانون العالميون الذين أثّرت فيك أعمالهم؟
إلهامي الأول يكمن في الفن والعمارة الإسلامية؛ إذ أراه فناً روحانياً يختلف عن الكثير من المدارس الفنية المتداولة في الغالب. وأنا أحاول أن أجد لغة معاصرة أجسد فيها هذا الفن العريق الذي نادراً ما نجده في حلّة متطورة تعكس مفردات زمننا الحالي. الكثير من الفنانين من مختلف المدارس أثرت فيّ أعمالهم، ولكني أتأثر أكثر بفنون المسرح والموسيقى، وأتمنى أن أتمكّن من أجمع كل هذه الوسائط في عمل واحد يوماً ما.
أي العناصر تركزين عليها أكثر في لوحاتك: التقنية أم الألوان أم الشكل النهائي للوحة؟
أؤمن أن لكل عمل روحاً خاصة به؛ فقد يهديني اللون أحياناً إلى طريق بداية لعمل جديد. ولكن غالباً ما أرى العمل كصورة كاملة في ذهني، وأحاول تحقيقها واقعياً.
حدّثينا إذن عن الرسالة التي تحاولين نشرها من خلال إبداعاتك وفنك..
كَوني من الحجاز، أحاول دائماً أن أجسّد ثقافتي، خاصة أنه يغيب عن الكثيرين تراث المنطقة العمراني والاجتماعي الأصيل؛ فقد يعتقد الكثيرون أن الحجاز كانت صحراء ولم يكن فيها أي حراك علمي أو اجتماعي متميز، ولكن العكس هو الصحيح. فمنطقة الحجاز كانت حاضنة لعلماء وحرفيين وشيوخ بالإضافة الى الأربطة والمنشآت العلمية والأوقاف الخيرية التي كانت تُدار من قبل نساء ورجال من الحجاز وخارجه؛ القليل جداً يُذكر عن كل مظاهر الحياة هذه والقيم الجمالية الملتمسة في العمران الحجازي، وأنا أحاول أن أجسّد هذا الجانب المهمل من التاريخ، لذا تجدين الكثير من أعمالي بمثابة أجوبة لأسئلة كثيرة شغلت بالي عن الهوية والدين والمجتمع.
في رأيك، هل ترين شريحة واسعة من متذوقي الفنون في المملكة؟ وهل وجدت مساندة ودعماً من مجتمعك المحلي؟
وإن كنت لا أزال أراه محصوراً في فئة معينة، تقدير الفن بدأت شريحة متابعيه ومتذوقيه في المجتمع المحلي بالاتساع. وعلى الرغم من أن الوسط الفني المحلي نشط جداً، فأنا أرى أنه يجب بذل المزيد من المجهود لمساندة فن يعكس هويتنا وآراءنا وثقافتنا المحلية من وجهة نظر بعيدة كل البعد عن الاستشراق والتغريب. أما بالنسبة إليّ شخصياً، فكنت محظوظة بتلقّي دعم كبير جداً من بعض الأشخاص المؤثرين في الوسط الفني، خاصة "حافظ غاليري".
لا جدال أن الثقافة العربية تواجه حالياً أزمة هوية وأزمة مصير؛ كيف ترين إمكانياتك في الدفاع عن قيمها الحقيقية من خلال إبداعاتك؟
الصدق هو السبيل الأساسي في رأيي؛ أن أكون صادقة في إحساسي وتعبيري وأن أجسّد ما قد يضيف معاني وقيماً سامية للمتلقين لا ما يرضي مؤسسات الفن ومؤسسات الإعلام الغربية والقائمين عليها.
تستلهمين إبداعاتك من بيئتك وثقافتك المحلية كما ذكرت؛ فما هي العناصر التي تلهمك أكثر من سواها؟
التناقض في التفاصيل اليومية في معتقدات المجتمع الفكرية؛ فمن الصعب جداً وصف التباين في العادات والتقاليد والأعراف من بيت لآخر في نفس المدينة أو حتى على نطاق الحي الواحد بصورة خاصة. فأنا أجد التركيبة السكانية الحديثة لمدينة جدة معقّدة جداً وصعب فهمها، وهذا التعقيد يُعد مصدر إلهام كبير جداً لي.
وبرأيك، كيف كان تأثير الإصلاحات الأخيرة التي شهدتها المملكة على المشهد الفني المحلي؟
بالتأكيد كان له كبير الأُثر في دعم الساحة الفنية والمشهد الفني، وعزّز حدوث انفتاح أكبر على إقامة مشاريع فنية ضخمة بصورة أكثر توسّعاً.
هل تحلمين بتحقق تطورات وتغييرات أكثر على أرض الواقع خلال العام الحالي أو الأعوام المقبلة؟
أحلم بأن يكون في العالم مصداقية وشفافية أكثر، لا سيما من قِبل الفنانين والقائمين على الفن، فهُم مرآة المجتمع في رأيي، وألا يكون الفن مجرد ردة فعل لعناوين إعلامية عابرة. وعلى المستوى الشخصي، أحلم أن أُقبل على تجربة مسرح العرائس الذي طالما كان حلماً كبيراً من أحلامي.
حديث الرسامة سارة العبدلي كان يقطر صدقاً وشغفاً أصيلاً بالفنون والتراث الأصيل، وحفّزنا على متابعة أعمالها وتقدّمها عن قرب، فاحرصي على متابعتها أنت أيضاً فستجدين معها إبداعاً أصيلاً واستثنائياً.