عدتُ أمس مع
شانيل إلى نيويورك بعد سبع سنوات من آخر عرض Métiers d’Art حضرته في المدينة. في عام 2018، كنت شاهدة على آخر عرض قدّمه كارل لاغرفيلد لهذا الخط داخل متحف المتروبوليتان، وها أنا اليوم أشهد لحظة جديدة مليئة بالترقب: أول عرض Métiers d’Art لماثيو بليزي، مكلل بشعور مزدوج بالغربة والحنين، وكأن المدينة تعيد فتح أبوابها على فصل جديد في تاريخ الدار، وتدعوني لأرى كيف يتجدّد إرث شانيل عبر أنامل مبدع جديد.
منذ إطلاق هذا الخط في عام 2002 على يد كارل لاغرفيلد، حملت مجموعات Métiers d’Art رسالة واضحة: تكريم الحرفية الاستثنائية للمشاغل الشريكة لشانيل، من بينها Lesage وLemarié وGoossens وMassaro وMaison Michel وAtelier Montex . يومها قُدِّم أول عرض في بوتيك شانيل في باريس، قبل أن يصبح تقليداً سنوياً ينتقل بين عواصم العالم، مسلّطاً الضوء على قلب الدار الحقيقي: الفن الحرفي.
وعلاقة شانيل بنيويورك ليست طارئة، فالمدينة العالمية سبق أن احتضنت عرضين عامَي 2005 و2018، كما استضافت عرض مجموعة كروز 2006-2007 في محطة غراند سنترال تيرمينال. وعليه، يمكن القول إن الحوار يعود اليوم بين نيويورك وباريس، لكن هذه المرة بروح مختلفة تماماً.
ليلة عاصفة… ومنصة مهجورة تحت الأرض
كان المشهد هذه المرة بعيداً كل البُعد عن القصور الأوروبية أو المتاحف المهيبة. ففي مساء شتوي عاصف، اختارت شانيل منصّة مترو مهجورة في قلب نيويورك لعرض مجموعتها الجديدة، Métiers d’Art 2026 في خطوة مفاجئة، لكنها تعبّر تماماً عن المرحلة الجديدة التي تدخلها الدار: مرحلة أكثر جرأة، أكثر شخصية، وأكثر رغبةً في كسر التوقعات بقياد ماثيو بليزي. فهذا المصمم الشاب الذي تولّى منصب المدير الإبداعي حديثاً وقدّم أول مجموعة جاهزة في أكتوبر الماضي، أراد أن يحتفي بروح نيويورك بطريقة غير متوقعة. فجاء العرض كلوحة من شخصيات المدينة، تلك النماذج التي تصنع مزاج الشوارع، وتمنح المدينة هويتها المتمرّدة واللافتة.
بين بدلات مخطّطة، فساتين الريش، نقوش النيون الحيوانية، والمعاطف الضخمة التي تفيض بنبرة درامية… بدت المجموعة وكأنها تعكس فوضى نيويورك الجميلة، لكن كما تراها شانيل.
رحلة بين عربات القطار
العرض بحد ذاته كان تجربة غير مسبوقة. فقد تجوّلت العارضات بين عربة قطار متنقلّة وعلى طول المنصة، وكأنهن يعشن لحظة يومية عادية ولكن بنسخة فاخرة. أليكس كونساني مشت بثقة، يداها في جيبي بدلة مخطّطة واسعة مع قبعة فيدورا، بينما ظهرت أنوك ياي بطلّة مسرحية مذهلة: تنورة ضخمة بطبعات ليوبارد خضراء متدرجة، ياقة عالية سوداء، ومجوهرات متساقطة كضوء متراقص، وكل ذلك وهي تقرأ "جريدة شانيل" التي شكّلت أيضاً دعوة العرض.
ولأن كل ما تفعله شانيل يتحوّل إلى لحظة ثقافية، امتلأت الصفوف الأولى بوجوه بارزة: من ميغ راين وجيري ساينفيلد وصوفيا كوبولا، وصولاً إلى ويتني بيك وآيو إديبيري وماريسكا هارغيتاي وآنجيل وتينانا تايلور والسفراء الجدد A$AP Rocky ومارغريت كوالي.
حرفية تخدم الفكرة… لا العكس
اللافت في رؤية بليزي أنه لا يتعامل مع الزخرفة كعنصر تجميلي فقط. ففي مقابلة مطبوعة داخل الجريدة الخاصة بالعرض، قال: "ليست القيمة في كون القطعة مُطرّزة، بل في أن تخدم التطريزات غرضها. عندها فقط نستطيع أن نروي قصة".
هذا النهج بدا واضحاً في القطع التي بدت وكأنها تجمع بين فن المشاغل الحرفية المتوارث وبين شخصية كل "كاركتر" استلهم منها المصمم. فهناك صحافية من السبعينيات، وسيدة أعمال من الثمانينيات تستعد لـ"تحكم العالم"، وشخصيات أخرى يجمع بينها خيط غير مرئي: الهويّة.
بين السينما والمسرح… وإشارات إلى غابرييل شانيل
كما استعاد بليزي جانباً مهماً من تاريخ الدار: علاقة غابرييل شانيل بالسينما. فقد قدّمت في الماضي أزياء لعدد من الأفلام بين الثلاثينيات والخمسينيات، وهذا الإرث انعكس بوضوح على الطابع المسرحي لبعض الإطلالات.
من أبرزها:
• طقم أحمر وعاجي بقصّة غير متناظرة وحواشي متمايلة من الشراشيب السوداء.
• معطف فحمّي ثقيل تتناثر عليه ريشات ناعمة.
• فستان بدرجات الغروب الوردي مغطى بالخرز البرّاق.
لكن وسط كل ذلك اللمعان، حافظت الدار على ملامحها الواقعية: فساتين سوداء بسيطة، معاطف ترنش عملية، ولمسات دنيم تمنح المجموعة جرعات من العصرية.
نيويورك التي لا يمكن التنبؤ بها
اختتم بليزي حديثه بجملة لافتة: "ما يعجبني في نيويورك أنك حين تركبين المترو لا تعرفين أبداً من ستلتقين".
ربما كان هذا أفضل توصيف للعرض نفسه: لقاء غير متوقع بين تراث باريس وحيوية نيويورك، بين الحرفيين الذين يعملون بصمت في محترفات شانيل، وبين شخصيات تتحرك في شوارع المدينة بلا توقف.
في أمسية واحدة، قدّمت شانيل عرضاً لا يكتفي بالاحتفال بالحرفية، بل يعيد رسم خريطة علاقة الدار بالمدينة الأكثر جرأة وفوضى في العالم. ومع ماثيو بليزي، يبدو أن فصول Métiers d’Art تدخل مرحلة جديدة… أكثر حيوية، وأكثر صدقاً، وأكثر ارتباطاً بالإنسان قبل الصنعة.