هناك تجارب تبقى حيّة في الذاكرة، لا بسبب تميّزها فحسب، بل لأنّها تلامس شيئاً عميقاً في الروح. هكذا شعرت حين تلقيت الدعوة من علامة برونيلو كوتشينيلي لحضور العرض العالمي الأول لفيلم وثائقي يتناول قصة حياة المصمم في قلب روما. علامة اعتدتُ تقديرها من بعيد لأناقتها الهادئة وحضورها الإنساني، فإذا بي أتلّمس من الداخل رؤيتها التي تضع الأناقة والإنسانية في مكان واحد، وتمنح العمل معنى يتجاوز المهنة ليصبح فلسفة حياة.
قبل عامين، احتفلنا في سولوميو بعيد ميلاد المصمم السبعين، وكانت تلك الزيارة أول مرة أعيش فيها تجربة القرية التي صنعها برونيلو برؤية واضحة وروح مُلهِمة. هناك، أدركتُ حقيقة المكان الذي يكرّر الحديث عنه دائماً… قرية تنبض بفلسفته وتروي حكايته حتى قبل أن تُروى على الشاشة.
منذ اللحظة الأولى لوصولنا إلى العاصمة الإيطالية، كان واضحاً أنّ ما ينتظرنا ليس مجرد حدث أو مناسبة، بل احتفاء كبير برجل اختار أن يزرع فلسفته في الأرض والإنسان معاً. رحلة بدأت من جبال أومبريا وصولًا إلى سولوميو، القرية التي حوّلها كوتشينيلي إلى رمز لـ"الرأسمالية الإنسانية"، وتجلّت أمامنا على الشاشة بالتفاصيل نفسها التي يحافظ عليها اليوم بحب وصدق.
روما تحتفي بقصة رجل جمع الفلسفة بالعمل
شهد Teatro 22 في استديوهات تشينتشيتا أجواءً استثنائية في تلك الليلة التي عُرض فيها الفيلم الوثائقي Brunello: The Gracious Visionary للمرة الأولى. حضور عالمي لافت ملأ المكان، من نجوم السينما إلى شخصيات ثقافية وصحفية من مختلف البلدان. ومن منطقتنا العربية، تألّق باسل خياط وديما الشيخيلي على السجادة الحمراء، إلى جانب أسماء عالمية بارزة مثل إدغار راميريز، جيف غولدبلوم، وجيسيكا شاستين، ما منح الأمسية بُعداً احتفالياً جميلاً جمع بين الثقافات تحت مظلة الإبداع.
كان واضحاً أنّ الفيلم ليس مجرد إنتاج جديد لعلامة تحبّ أن تروي قصتها، بل هو حدث أراد له كوتشينيلي أن يكون مساحة تجمع من يؤمنون بقيمة الجمال وبقدرة الأحلام على تشكيل مصائرنا.
فيلم يجمع بين الوثائقي والروائي بروح شاعرية
ما قدّمه المخرج الحائز على الأوسكار جوزيبي تورناتوري لم يكن فيلماً تقليدياً. فـ Brunello: the Gracious Visionary هو عمل يتجاوز حدود التصنيف، يجمع بين الوثائقي والروائي في بناء بصري متداخل يحرّض على التأمل. يروي الفيلم مسيرة برونيلو منذ طفولته في الريف الإيطالي، مروراً بسنوات تكوينه الأولى، وصولًا إلى تلك اللحظة المفصلية التي قادته إلى سولوميو… المكان الذي تحوّل لاحقاً إلى مرآة لفلسفته.
بين مشاهد أرشيفية وشهادات شخصية ولقطات تمثيلية تستعيد اللحظات المفصلية في حياته، يقدّم تورناتوري لوحة إنسانية شديدة الخصوصية. عمل يتعامل مع الذاكرة كحقيقة تحتمل التأويل، ومع السرد كمساحة تمتزج فيها الذات بالخيال. لهذا بدا الفيلم أقرب إلى تجربة روحية، لا مجرد سيرة رجل ناجح.
برونيلو كوتشينيلي… الإنسان قبل المصمم
العلاقة بين كوتشينيلي وفلسفة العمل كانت دائماً محوراً يستحق التوقف عنده. في الفيلم، يتحدّث عن طفولته البسيطة، وعن صورة والده الذي كان يعود يومياً مثقلاً بتعب العمل القاسي، وهي اللحظة التي دفعته للتفكير بطريقة مختلفة في معنى الكرامة الإنسانية داخل بيئة العمل.
من هنا وُلد مفهوم "الرأسمالية الإنسانية" الذي يؤمن فيه بقيمة الإنسان كمحور الإنتاج، ويؤكد أنّ الأناقة ليست ترفاً، بل ضرورة أخلاقية. وبين فلسفة الإغريق القدامى، وأفكار ويليام موريس وروبرت أوين، وحكايات الأرض التي نشأ عليها، نجح كوتشينيلي في أن يخلق نموذجاً فريداً لشركة عالمية تراعي الإنسان كما تراعي الأناقة. وهي رؤية طبقها عمليّاً في سولوميو: ترميم للمساحات بدل استهلاكها، إحياء للحرف، بناء مكتبات ومسارح، وتحويل الأراضي الصناعية المهملة إلى حدائق ومزارع. وكأنّه يزرع الجمال ليبقى، لا ليُستهلك.
سولوميو… القرية التي أصبحت فلسفة
الفيلم يأخذنا في جولة داخل هذه القرية التي حوّلها كوتشينيلي إلى مشروع ثقافي وإنساني واجتماعي. مسارح، مكتبات، ساحات للفنون، مدارس للحرف، وبيئة عمل يستشعر فيها المرء معنى العيش بكرامة. كل تفصيل فيها يروي حباً عميقاً للحياة، وحساً بالأناقة يستند إلى البساطة والاعتدال والتوازن.
فسولوميو ليست مكاناً بقدر ما هي فكرة: كيف يمكن للأناقة أن تعيد بناء الإنسان، وكيف يمكن للإنسان أن يترك أثره على الأرض دون أن يجرحها.
لحظة تأمّل… حين يتحوّل الفيلم إلى رسالة
بعد انتهاء العرض، وقف برونيلو كوتشينيلي ليوجّه كلمة عاطفية تحدّث فيها عن سعادته بوجود كل مَن شارك هذا الحلم، مكرّراً امتنانه لكل مَن ساعده في تحويل قصته إلى فيلم يليق بالإنسان الذي يؤمن به. تحدّث عن الشباب، عن أهمية الحفاظ على الأحلام، وعن جمال أن نعيش بسلام مع أنفسنا ومع العالم.
كانت كلماته امتداداً طبيعياً لما رأيناه في الفيلم، وصوتاً داخلياً يذكّرنا بأنّ الإبداع ليس مادة، بل روح.
لم تكن زيارتي لإيطاليا مجرد رحلة صحفية، بل تجربة إنسانية منحتني مساحة للتفكير في علاقة الأناقة بالحياة. ما يقدّمه برونيلو كوتشينيلي ليس موضة فاخرة فحسب، بل رؤية تجعل من العمل حكاية، ومن الحكاية إرثاً يليق بأن يُروى.
عدتُ من روما وأنا أحمل تقديراً أكبر لعلامة اختارت أن تبقى وفيّة لجذورها، ولرجل آمن بأن الحلم، حين يُسقى بالشجاعة، يستطيع أن يشق طريقه نحو العالم.