في موسمٍ يزدحم بالأسئلة حول دور الموضة وسط التغيّرات الثقافية، قدّم المصمّم جايسون وو عرضاً يختلف بنبرته وعمقه عن الكثير مما شهدناه على منصّات نيويورك. فاختياره لمبنى Anglerfish في بروكلين لم يكن مجرد موقع عرض، بل تحوّل إلى مساحة فنية نابضة بالحياة، بفضل تعاونه مع مؤسسة Rauschenberg Foundation، حيث وُضعت تصاميمه في حوار مباشر مع أعمال الفنان الأميركي الشهير روبرت راوشنبرغ. الفكرة في جوهرها كانت جريئة: كيف يمكن للأزياء أن تدخل في نقاش مع فن بصري أيقوني قائم على الطبقات والملامس والصدف البصرية؟ النتيجة جاءت على شكل مجموعة توازن بين الرهافة المعهودة لدى جايسون وبين قوة الرمزية الفنية. لقد شعرتُ وأنا أشاهد صور العرض أن الأمر لم يكن مجرد تحية لفنان راحل، بل محاولة لبناء جسر حيّ بين الماضي والحاضر، بين القماش واللوحة، بين الأناقة والصدمة البصرية. وهنا، تكمن قوة العرض: في كونه أشبه برقصة متقنة بين خامات وطبقات ومعان متراكبة.
بين الرصانة والفوضى الجميلة
المجموعة بحد ذاتها كشفت عن قدرة جايسون على التحرّك بخفّة بين عالمين: عالمه الخاص الذي نعرفه برصانته، وعالم راوشنبرغ الذي يتّسم بالفوضى الجميلة والبحث المستمر عن الجديد. بعض التصاميم بدت وكأنها تنتمي مباشرةً إلى أرشيف جايسون الكلاسيكي: فساتين أنثوية ناعمة بخطوط دقيقة وقصّات مألوفة. لكن ما شدّني حقاً كان تلك القطع التي خرج فيها المصمم عن مألوفه: أقمشة متداخلة، ألوان متراكبة، تفاصيل غير متوقعة تشبه إلى حد بعيد أعمال راوشنبرغ النصّية المليئة بالمفاجآت. هنا، بدا وكأن وو يغامر بتغيير لغته التصميمية، ليختبر كيف يمكن للأزياء أن تتحمّل ثقل الحوار مع الفن. وبصراحة، هذه الجرأة كانت منعشة ومطلوبة، خصوصاً في موسم تحكمه في الغالب الرغبة باللعب على المضمون الآمن.
بداية مسار جديد؟
شخصياً، ما أعجبني هو هذا الجانب الحواري في العرض، وكأن وو يقول لنا إن الموضة ليست معزولة عن تاريخ الفن أو عن صدى الثورات الجمالية السابقة. بل على العكس، يمكنها أن تستعيد هذا التاريخ وتعيد صياغته في هيئة عصرية ترتديها المرأة اليوم. صحيح أنّ بعض الإطلالات بدت مترددة أو عالقة بين عالمين، لكن هذا التردّد بحد ذاته له دلالته: إنه إشارة إلى بداية مسار جديد، إلى محاولة أولى ستتبعها خطوات أكثر رسوخاً. وربما لهذا السبب خرجت من العرض وأنا أشعر برغبة في رؤية المزيد، كأن وو لم يقل كل ما يريد قوله بعد.
باختصار، ما فعله جايسون وو هذا الموسم هو أكثر من مجرد عرض أزياء. إنه تذكير بأن الموضة يمكن أن تكون تاريخاً حيّاً للفن، وأنها قادرة على حمل إرث بصري كامل وترجمته بخيوط وخامات على منصة العرض.
عملت في مجال الصحافة والكتابة منذ سن الـ16، خرّيجة كلية الإعلام والتوثيق في بيروت، أقيم في دبي منذ 14 عاماً، حيث أعمل اليوم كمحررة ومديرة لموقع gheir.com، أشرف على المحتوى وأهتمّ بإدارة العلاقات مع العلامات الكبيرة في مجال الموضة والمجوهرات والجمال والفنون الجميلة على أنواعها. أقوم أيضاً بمقابلات حصرية فيما يتعلق بإصدارات دور الأزياء والمجوهرات، وتنفيذ جلسات تصوير وفيديوهات خاصة بالموقع.