في مشهد مفعم بالتأمل، ودّع المصمم الجورجي ديمنا دار بالنسياغا من على منصتها التاريخية في جادة جورج الخامس، حيث قدّم آخر عروضه للهوت كوتور في لحظة ستُسجّل كإحدى أكثر المحطات تأثيراً في ذاكرة الموضة الحديثة. فبيعد عقد من الابتكار، كان هذا العرض بمثابة رسالة أخيرة – لا صاخبة، بل هادئة، مشبعة بالنضج العاطفي، والأناقة المنضبطة.
عرض بتوقيع شخصي: ختامٌ يشبه الاعتراف
الافتتاحية لم تكن بإيقاع موسيقي مألوف، بل بأسماء أصدقاء ديمنا تُنطق همساً في الخلفية، من روبن ميسون، مديرة العلاقات العامة التي رافقته لسنوات، إلى الممثلة الفرنسية إيزابيل هوبير، لينتهي الصوت باسمه الحقيقي. ثم تأتي الأغنية No Ordinary Love التي حملت ثقلًا عاطفياً مضاعفاً كونها مرتبطة بطفولته، وكأنها المفتاح لفهم رسالته: الحب غير العادي، تماماً كالعلاقة التي بناها مع دار بناها كريستوبال بالنسياغا ذات يوم على أسس النقاء والبراعة.
عالم مختلف عن بداياته: الأناقة بدل الغضب
على عكس العروض السابقة التي عُرفت بالغرابة، المبالغة، وخلخلة مفاهيم الفخامة، تميز هذا العرض بالتركيز على الحِرَفية الصامتة. غابت عناصر الصخب البصري، وبرزت عوضاً عنها إطلالات تحمل توقيع بالنسياغا بأنقى صوره: معاطف ترانش مشدودة عند الخصر، بدلات ذات أكتاف منحنية إلى الأمام بتقنية معمارية، فساتين مطرزة تستند إلى مشدّات داخلية بلا دعامات معدنية – بل بتقنيات هندسية متطورة.
أزياء تسكنها الأجساد لا العكس
في لحظة مؤثرة ومعبّرة عن فلسفته، عرض ديمنا سترة توكسيدو مصممة وفق تقاليد الخياطة النابوليتانية، ليرتديها أولاً لاعب كمال أجسام مفتول العضلات، ثم عارضون من أصحاب البُنى الجسدية النحيلة، بمن فيهم شريكه لوئيك غوميز. هذه المقارنة الحية كانت تجسيداً لما يؤمن به: "ليس اللباس مَن يحدد الجسد، بل الجسد مَن يمنح اللباس شكله وهويته."
دراما صامتة: من كيم كارداشيان إلى دوللي بارتون
مرّت على المنصة لحظات مسرحية بامتياز، من إطلالة كيم كارداشيان بمعطف فرو شبيه بستايل إليزابيث تايلور، إلى عارضة جسّدت شخصية ديزني خيالية – لكن تلك اللمسات الدرامية لم تخفف من ثقل الخياطة، بل زادت من سحر المشهد، مثل نغمة موسيقية جانبية لا تطغى على اللحن الأساسي. حتى الإطلالات ذات الطابع القوطي المستوحى من "عائلة آدامز" – من ألوان باهتة، وملامح جامدة، وأقمشة داكنة – بدت وكأنها تكرّم جمال قديم بمعالجة معاصرة، لا مجرد تقليد.
ضيوف من أرشيف الثورة
المدعوون كانوا بمثابة أرشيف حي لعصر ديمنا: ليزا رينا بمعطف باركا أزرق فائق الضخامة، كايتي بيري بفستان أسود هندسي، فريدريك روبرتسون في بدلة من مجموعة "الاختراق" الشهيرة بالتعاون مع غوتشي عام 2021 – وكأن العرض يلمّح لما ينتظر ديمنا في المحطة المقبلة، إذ من المتوقع أن يقدّم أول عروضه لدار غوتشي في مارس المقبل.
برأيي، هذا العرض لم يكن مجرد خاتمة لمسيرة ديمنا مع بالنسياغا، بل لحظة اعتراف نادرة من مصمم لم يكن يخاف يوماً من التحدي. صحيح أنه بدأ مسيرته مع الدار بقلب المعايير وقلب الطاولات، لكن ختامه كان بلوحة ناضجة تُشبه فناناً شاباً تخلّى عن الصراخ واختار أن يُهمس بدقة. أحببت كيف انتقل من التمرّد إلى التناغم، دون أن يفقد روحه. العرض كشف عن مصمم لم يعد يحتاج إلى إثبات شيء لأحد – بل فقط لنفسه.
عملت في مجال الصحافة والكتابة منذ سن الـ16، خرّيجة كلية الإعلام والتوثيق في بيروت، أقيم في دبي منذ 14 عاماً، حيث أعمل اليوم كمحررة ومديرة لموقع gheir.com، أشرف على المحتوى وأهتمّ بإدارة العلاقات مع العلامات الكبيرة في مجال الموضة والمجوهرات والجمال والفنون الجميلة على أنواعها. أقوم أيضاً بمقابلات حصرية فيما يتعلق بإصدارات دور الأزياء والمجوهرات، وتنفيذ جلسات تصوير وفيديوهات خاصة بالموقع.