على هامش أضواء كاميرات أسبوع الموضة في نيويورك وصخب العروض الكبرى، هناك مجموعات استثنائية لم تحظ بالاهتمام الذي تستحقه، رغم ما تحمله من ابتكار وحرفية عالية وجمال بصري خلاب. هذه العروض، سواء كانت غنية بالتفاصيل المطرّزة، أو تلعب بتناقض الأقمشة والخطوط، أو تستلهم ثقافات وتراثاً متنوعاً، تقدّم رؤية عصرية للأزياء تجمع بين الجرأة والرومانسية والوظيفية. إنها تذكير بأن الإبداع الحقيقي لا يُقاس بالضجة الإعلامية، وأن بعض أكثر اللحظات روعة في أسبوع الموضة يمكن أن تمرّ دون أن يلتفت إليها الجمهور بالشكل الذي تستحقه.
قدّم الثنائي Anna Shaheen وAnthony Cucculelli عرضهما لربيع 2026 بعنوان Flaming Hearts في أجواء غروب خلابة على رصيف بيير 40 في نيويورك، حيث التقت الموسيقى الحية مع الأزياء في لحظة مسرحية لا تُنسى. من اللحظة الأولى، بدا واضحاً أن هذه المجموعة تجسّد جوهر العلامة: مزيج من الحرفية الرفيعة والروح المتمرّدة التي لا تخشى كسر القوالب.
المجموعة تنقّلت ببراعة بين فساتين طويلة شفافة بخامات حريرية وشيفون انسيابي يوحي بحركة لا تنقطع، وبين قطع أكثر صرامة اعتمدت البنية الداخلية والـ boning لتشكيل خطوط معمارية قوية. هذا الحوار بين الانسياب والتماسك كان بمثابة استعارة بصرية للصراع بين الرقة والقوة، بين الحلم والواقع.
الألوان بدت كأنها مشاعر متجسدة: نحاسيات محروقة، كريميات متلألئة، وأزرق باهت يشعّ هدوءاً، مع ومضات مفاجئة من الأحمر الصارخ والأزرق الكهربائي لتكسر النعومة وتضع علامات استفهام عاطفية على كل إطلالة. التطريزات الدقيقة والترصيعات المعدنية لم تكن مجرد زينة، بل لعبت دوراً سردياً يروي قصصاً من الحب والحنين والتمرّد.
حتى في التفاصيل، ظلّ الحس العملي حاضراً. جاكيتات قصيرة ومعاطف طويلة زُيّنت بحواف مزخرفة، حقائب جلدية وأحذية صلبة واجهت هشاشة الفساتين الشفافة، لتؤكد على ثنائية الصلابة والهشاشة. ومع لمسات الجمال المتعمّد غير المصقول، اكتمل المشهد بروح الروك التي تعكس قلب العلامة.
في النهاية، أثبت علامة Cucculelli Shaheen أن الرومانسية لا تعني الهروب من الواقع، بل مواجهته بالخيال والحرفية. هذه المجموعة لم تكن مجرد أزياء، بل بيان فني يوازن بين العاطفة والعملية، بين الحلم والمدينة.
قدّمت المصممة البرازيلية باتريسيا بونالدي مجموعتها الجديدة لعلامتها PatBo خلال أسبوع الموضة في نيويورك، وكأنها حديقة تنبض بالحياة. من اللحظة الأولى في Hudson Yards، كان الجمهور محاطاً بعبق الأزهار الحقيقة التي مهدت الطريق لعرض مكوّن من 38 إطلالة، تتأرجح بين الفساتين القصيرة المزيّنة بالزهور والقطع الماكسي ذات الحجم المهيب.
المجموعة حملت توقيع المصممة الواضح: تطريز يدوي دقيق، شغف بالتفاصيل، واحتفاء بالأنوثة الصاخبة. الأقمشة تراوحت بين الشيفون الخفيف الذي يرفرف مع كل خطوة، والأقمشة المشكّلة التي دعمت قصّات الببلوم والـ bubble silhouettes، لتخلق حواراً بين الانسياب والصرامة. أما الشراريب فقد لعبت دور البطولة، مضيفة إيقاعاً حركياً وخفةً بصرية، لتتحوّل إلى عنصر زينة وحركة في آن واحد.
المراجع الجمالية من ثمانينيات القرن الماضي بدت حاضرة بوضوح عبر الأكمام المنتفخة والأكتاف الدائرية، لكن بأسلوب حديث أعاد صياغتها بعيداً عن المبالغة. ومع ذلك، بقيت الزخارف والتطريزات الكثيفة هي القلب النابض للمجموعة، حيث تحولت بعض القطع إلى لوحات ثلاثية الأبعاد تعكس بريقاً متجدداً.
الألوان جسّدت احتفالية بصرية كاملة: درجات نباتية مشبعة، ألوان باستيل هادئة، ونبضات نيون مشرقة، ما منح العرض طابعاً كرنفالياً راقياً. الإكسسوارات الكبيرة من أقراط مرصّعة وأساور ضخمة وأحزمة معدنية منخفضة الخصر عززت الطابع المسرحي، بينما بدت بعض القطع أكثر مباشرة مثل التوب الأبيض المطرّز بكلمة Latina كتصريح شخصي واضح.
في النهاية، أثبتت PatBo أن الحِرفية البرازيلية قادرة على التحوّل إلى لغة عصرية تحتفي بالأنوثة والاحتفال في آن، وأن جرأة الألوان والأحجام حين تقترن بالدقة الفنية تمنح الأزياء طابعاً عملياً رغم زخمها المسرحي.
عاد المصمم الهندي-الأميركي بيبهو موهاباترا إلى منصة أسبوع الموضة في نيويروك هذا الموسم بروح جديدة، أكثر شباباً واحتفالية، دون أن يتخلى عن الحرفية التي لطالما ميّزت أعماله. بعد موسمين طغت عليهما مشاعر الفقد الشخصي، استلهم موهاباترا هذه المرة من زيارته الأخيرة إلى الهند ومن طاقة فريق إبداعي شاب هناك، ليقدّم مجموعة تعكس قوة المرأة الهندية الرائدة في القرن العشرين، لكن بعدسة معاصرة متفائلة.
المجموعة نسجت توازناً ذكياً بين الإرث والتجديد. قصات الكورتا التقليدية ظهرت بجوار بناطيل الكارغو والجينز الفضفاض، لتخلق حواراً بين الرسمي الموروث والعفوي العملي. إحدى الإطلالات اللافتة جمعت بين سروال كارجو من الكريب الوردي الباهت وكورتا أحمر كلاسيكي، في مزيج أعاد تعريف الأناقة الاحتفالية بوصفها قابلة للارتداء اليومي. وفي المقابل، تجلت البراعة التقنية للمصمم في فساتين السهرة الحريرية المطرزة بالخرز والباييت، التي جمعت بين الانسيابية والفخامة.
الألوان جسّدت التفاؤل: أخضر ليموني، وردي سكري، وأحمر نابض بالحياة، إلى جانب محايدات لؤلؤية منحت التوازن. هذا التنوع اللوني عزّز فكرة أن الفخامة يمكن أن تكون مرحة، عملية ومبهجة في آن. التفاصيل البنيوية مثل الجيوب الظاهرة والخياطات الخارجية أضافت طابعاً عملياً، بينما حافظت البُنى الداخلية المستوحاة من الكورسيه على جمالية النحت.
حتى في التنسيق، حاول المصمم الموازنة بين الأجيال: أحذية مسطحة وصنادل بسيطة لإطلالات النهار، وإكسسوارات مرصعة بالكريستال مع القطع الأكثر جرأة. النتيجة النهائية كانت مجموعة انتقالية، تضع موهاباترا على عتبة مرحلة جديدة: حيث يلتقي الإرث الثقافي بالحياة اليومية، وتتحول الفخامة من مجرد عرض مسرحي إلى لغة يمكن لجيل جديد أن يتبنّاها.
عملت في مجال الصحافة والكتابة منذ سن الـ16، خرّيجة كلية الإعلام والتوثيق في بيروت، أقيم في دبي منذ 14 عاماً، حيث أعمل اليوم كمحررة ومديرة لموقع gheir.com، أشرف على المحتوى وأهتمّ بإدارة العلاقات مع العلامات الكبيرة في مجال الموضة والمجوهرات والجمال والفنون الجميلة على أنواعها. أقوم أيضاً بمقابلات حصرية فيما يتعلق بإصدارات دور الأزياء والمجوهرات، وتنفيذ جلسات تصوير وفيديوهات خاصة بالموقع.