في عالم الأزياء، لا تمرّ لحظة خروج مصمم من دار عريقة كحدثٍ عابر. ومع إعلان ماريا غراتسيا كيوري مغادرتها دار ديور بعد نحو عقد من الإبداع،- تسع سنوات بالتحديد، تُطوى صفحة من التاريخ كتبتها أول امرأة على رأس الدار الفرنسية، بحروف من قماش وشعارات نسوية ونظرة إنسانية للموضة. فمنذ انضمامها إلى "ديور" قادمة من دار Valentino عام 2016، أحدثت كيوري تحولاً جوهرياً في صورة الدار واستراتيجيتها التجارية. كانت أول امرأة تتولى هذا المنصب في تاريخ الدار، وقد قدّمت رؤية أنثوية حداثية، صاغتها لتخاطب المرأة العصرية بأسلوب عملي وواقعي، يمزج بين الأناقة اليومية، العمل والترف المسائي.
تميزت مجموعاتها بتصاميم مرنة وبعيدة عن التكلّف، مع قصّات ناعمة وأقمشة تنساب بسهولة، كبديل عن الكورسيهات الصارمة التي لطالما ميّزت إرث الدار. كما وسّعت نطاق الإكسسوارات إلى ما هو أبعد من حقيبة "ليدي ديور" الأيقونية، ونجحت في ابتكار قطع جديدة أصبحت من الأكثر مبيعاً، مثل حقيبة "Book Tote" و"Bobby" وعودتها الذكية إلى "Saddle Bag" بنسخ موسمية متجددة.
"يجب أن نكون جميعاً نسويات"… بداية مختلفة
منذ أول عرض أزياء لها مع ديور عام 2016، أوضحت كيوري أنها لا تقدم مجرد أزياء، بل مواقف. ظهرت العارضات على المنصة يرتدين قمصاناً تحمل عبارة "We Should All Be Feminists"، اقتباساً من مقالة الكاتبة النيجيرية شيماماندا نغوزي أديتشي، في خطوة اختزلت ما ستكون عليه فلسفة كيوري خلال سنواتها القادمة: الموضة كأداة للمناصرة، لا التجميل فقط.
من "J’Adior" إلى "Book Tote": أيقونات من يوميات المرأة العصرية
نجحت كيوري في أن تجعل من الإكسسوارات رموزاً عالمية. حذاء J’Adior ذو الكعب القصير Kitten Heels، الذي أطلقته في ربيع 2017، سرعان ما أصبح مفضلاً لدى النساء العاملات والأنيقات في آن. وبعده بعام، جاءت حقيبة Dior Book Tote، التي أصبحت قطعة أساسية في خزانة السفر والعمل، بفضل تصميمها العملي وزخرفتها التي تحتفي بالحرف اليدوية.
وفي 2018، أعادت الدار بفضل كيوري إحياء حقيبة Saddle الأيقونية، لكن بروح جديدة تواكب المرأة الحديثة، وكأنها تقول: نحتفي بالماضي، لكننا نعيد كتابته بلغتنا الخاصة.
بين الباليه واليونان والمكسيك: الموضة كجسر ثقافي
تميّزت عروض كيوري بكونها منصات فنية قبل أن تكون عروض أزياء. في ربيع 2019، استلهمت من عالم الباليه، مستذكرة ارتباط السيد ديور بالمسرح والرقص، وقدّمت تصاميم تنساب كحركات راقصة على الجسد. أما في المغرب، فاستوحت من تقنيات الطباعة بالشمع الأصيلة في إفريقيا، وقدّمت مجموعة Resort 2020 كتحية بصرية وحرفية للثقافة المحلية.
ثم جاءت لحظة المكسيك في Resort 2024، حيث اختتمت العرض بفستان أبيض مطرز باللون الأحمر، يحمل رسائل من الفنانة والمناضلة إلينا تشوفيت ومجموعة من الحرفيات المحليات. رسالة قوية، ملفوفة بالدانتيل، تعكس جوهر الموضة عند كيوري: أن تكون منصة للنساء، لا مجرد منصة عروض.
المرأة كما هي، لا كما يُراد لها أن تكون
اختارت كيوري وجهاً جديداً لم يُشبه النموذج التقليدي للعارضات: العارضة روث بيل ذات الشعر القصير، التي افتتحت عروضها وشاركت في حملاتها. خيار عفوي في ظاهره، لكنه رسالة ضمنية: الجمال لا شكل ثابت له، والأناقة لا تستنسخ.
النجوم يتألقون... بالقيم أيضاً
كانت لحظات السجادة الحمراء دائماً فرصة لتأكيد هوية ديور الجديدة. في حفل الأوسكار 2020، ظهرت ناتالي بورتمان بمعطف مطرز بأسماء مخرجات نساء لم يتم ترشيحهن، في لفتة فنية-سياسية لاقت صدى واسعاً، وأعادت التأكيد على روح التمرد الهادئ الذي غرسته كيوري في العلامة.
إرث حيّ، ومغادرة بشغف مكتفٍ
ربما نغلق اليوم فصل ماريا غراتسيا كيوري في ديور، لكن ما أنجزته لن يطوى ببساطة. لقد زرعت في قلب الدار نبضاً نسوياً جميلاً، وأعادت تعريف العلاقة بين الأزياء والهوية، بين الثوب والرسالة، بين المرأة ومرآتها.
ومع إعادة إطلاق تيشيرت "J’adore Dior" في خريف 2025، تكون كيوري قد اختتمت رحلتها كما بدأتها: بجملة بسيطة، تنبض بحب للمرأة، وللحياة.
من يخلف ماريا غراتسيا كيوري؟ ديور تفتح صفحة جديدة مع مصمّم قديم
مع نهاية فصل بارز في تاريخ دار "ديور"، تتزايد التكهّنات حول هوية المدير الإبداعي الجديد للدار الفرنسية العريقة. وتشير مصادر موثوقة إلى أن جوناثان أندرسون، المصمّم البريطاني الشهير والمدير الإبداعي لعلامة Loewe، هو الاسم الأوفر حظاً لخلافة ماريا غراتسيا كيوري. من المتوقّع أن يُطلق مجموعته الأولى ضمن أسبوع الموضة في باريس في 27 يونيو، كمدير إبداعي لأزياء الرجال في ديور، ما يعزز الاحتمالات بأن الإعلان الرسمي بات وشيكاً.
فمع خفوت الأضواء على "حقبة كيوري"، تترقّب صناعة الموضة التحوّل التالي في ديور. فهل سيحمل أندرسون الشعلة ويواصل هذا المسار النسوي والمبتكر، أم أننا على موعد مع صفحة جديدة بالكامل في سجل الدار؟
الأكيد أن حقبة كيوري ستُذكر كفترة أعادت تعريف ما تعنيه الأنوثة في عالم الأزياء الفاخرة ،– لا كصورة مثالية بعيدة عن الواقع، بل كقوة يومية تعبّر عن الذات وتُطالب بحقوقها.
عملت في مجال الصحافة والكتابة منذ سن الـ16، خرّيجة كلية الإعلام والتوثيق في بيروت، أقيم في دبي منذ 14 عاماً، حيث أعمل اليوم كمحررة ومديرة لموقع gheir.com، أشرف على المحتوى وأهتمّ بإدارة العلاقات مع العلامات الكبيرة في مجال الموضة والمجوهرات والجمال والفنون الجميلة على أنواعها. أقوم أيضاً بمقابلات حصرية فيما يتعلق بإصدارات دور الأزياء والمجوهرات، وتنفيذ جلسات تصوير وفيديوهات خاصة بالموقع.