بعد ثماني سنوات من الغياب، عادت دار جيل ساندر إلى مقرها التاريخي في بيازا كاستيلو في ميلانو، لتقدّم عرضاً حمل أبعاداً رمزية عميقة: إعادة انطلاق للدار من جهة، وظهور أوّل للمصمم الجديد سيموني بيلوتي من جهة أخرى. التعيين الذي جاء في مارس الماضي، بعد تجربة قصيرة وناجحة نسبياً في دار بالي، وضع بيلوتي أمام تحدٍ استثنائي: كيف يحافظ على رموز أسلوب جيل ساندر النقية والمجرّدة، وفي الوقت نفسه يضخّ فيها حياة جديدة تناسب حاضر الموضة المتغيّر؟
تمسّك بالجذور
منذ البداية، حمل العرض إشارة واضحة إلى التمسّك بالجذور. افتتاح العرض بالعارضة غوينيفير فان سينوس، أيقونة حملات التسعينيات للدار، لم يكن مجرد تفصيل عابر، بل إعلان صريح عن رغبة في استحضار الذاكرة الجماعية والحنين إلى فترة تأسيسية. هذه العودة إلى الماضي شكّلت إطاراً داعماً لمشروع بيلوتي، الذي يبدو وكأنه يحاور التاريخ بقدر ما يحاور المستقبل.
المجموعة بُنيت على ثنائية دقيقة: التفصيل الكلاسيكي مقابل الحداثة والخفة. أبرز مثال على ذلك كان عودة المعطف الأيقوني المصنوع من قماش الـ double-face، لكن هذه المرة بصياغة من الجلد الطري، حيث جاءت الحياكة شديدة الإتقان، أقرب إلى فعل تكريم للحرفة. ومع ذلك، لم يكتف بيلوتي بهذا الجانب المحافظ، بل أدخل عناصر غير متوقعة كسرا التقليدية: شقوق عند عظام الورك في السراويل، جاكيتات مفتوحة بجرأة عند الظهر، وفتحات تهوية في أماكن تكشف الجلد بقدر محسوب. كانت هذه التفاصيل بمثابة إشارات إلى لغة جسدية أكثر صراحة، لكنها بقيت محكومة بدقّة وأناقة.
خامات رقيقة وشاعرية
الجانب الآخر من العرض كشف عن حساسية مختلفة، تمثلت في الشفافية والهشاشة. رأينا تراكباً لخامات رقيقة: تريكو شبكي بألوان شبه شفافة، وحرير خام مقطّع على شكل طبقات millefeuille تتدلى كشرائح دقيقة على فستان بسيط. هذه المقاربة منحت المجموعة بُعداً شاعرياً، حيث تحوّل الجسد إلى عنصر أساسي في بنية القطعة، لا مجرد حامل لها.
وباستعارة من عالم الفن، تحديداً سلسلة Hoods لريتشارد برينس، لعب بيلوتي على هندسية جديدة للأحجام: تنانير A-line مقلوبة بدساتير مخفية، قصات قطرية استحضرت شقوق لوحات لوتشيو فونتانا، وفستان مثقّب بفتحات دائرية كشفت عن صدريات مطرزة كشبكة معدنية تحتها. هنا، لم يكن الحديث عن العري المباشر، بل عن كشفت خجول ومدروس، يضع الجلد في حوار مع القماش وكأنهما جزء من المعمار نفسه.
أما في الملابس المحاكة، فقد جرّب المصمم التناقضات: سترة صوفية صغيرة بأبعاد طفولية ارتُديت فوق كنزة رياضية ضيّقة، مع جينز بسيط. دخول الدنيم على المجموعة شكّل لحظة لافتة، إذ لم يكن جزءاً من قاموس الدار سابقاً. لكن بيلوتي استخدمه كجسر إلى الحياة اليومية، في صدى واضح لنجاحه السابق مع بالي حيث كان يركّز على الصلة بالواقع المعاش.
حتى الإكسسوارات عكست هذا المزج بين النفعية والتميّز: أحذية أوكسفورد لامعة بأصابع منحوتة، باليرينات منحرفة قليلاً عن المركز، وكعوب مضغوطة بانحناءات غير متوقعة. جميعها جائت كأدوات إسناد للعرض، تثبّت التوازن بين ما هو عملي وما هو فنّي.
ورغم ثراء التفاصيل وتعدّد الإشارات، يمكن القول إن المجموعة عانت أحياناً من ازدحام المرجعيات، مما جعلها أقل صفاءً من المتوقع. بدا وكأن بيلوتي يحاول في عرض واحد أن يؤسّس لكل شيء: الماضي والحاضر، الحرفة والفن، البساطة والجرأة. لكن خلف هذه التجارب كان هناك وضوح في النية: إعادة بناء هوية جيل ساندر انطلاقاً من الدقة، الحرفية، والارتباط بالزمن المعاصر.
النتيجة؟ لم تكن رؤية متكاملة بعد، لكنها كانت بداية مشجعة، تفتح الباب أمام مشروع جديد قد يعيد للدار مكانتها ضمن قائمة الأصوات الأكثر تأثيراً في الموضة العالمية. وربما تكون هذه العودة، بعد ثماني سنوات من الصمت، أكثر من مجرد عرض أزياء، إنها إعلان عن ميلاد مرحلة جديدة، حيث يلتقي الإرث بالابتكار في حوار لا يزال في فصوله الأولى.
عملت في مجال الصحافة والكتابة منذ سن الـ16، خرّيجة كلية الإعلام والتوثيق في بيروت، أقيم في دبي منذ 14 عاماً، حيث أعمل اليوم كمحررة ومديرة لموقع gheir.com، أشرف على المحتوى وأهتمّ بإدارة العلاقات مع العلامات الكبيرة في مجال الموضة والمجوهرات والجمال والفنون الجميلة على أنواعها. أقوم أيضاً بمقابلات حصرية فيما يتعلق بإصدارات دور الأزياء والمجوهرات، وتنفيذ جلسات تصوير وفيديوهات خاصة بالموقع.