في وقت يتسابق فيه العديد من المصممين البريطانيين إلى استلهام شخصية الملكة ماري أنطوانيت، مدفوعين بالزخم الذي أحدثه المعرض الضخم المقام حالياً في متحف الـV&A في لندن، قرّر إيان غريفيثس، المدير الإبداعي لماكس مارا، أن يبحر في اتجاه آخر داخل أجواء القرن الثامن عشر. اختار شخصية لا تقل تأثيراً عن الملكة الفرنسية، لكنها أكثر حداثة في رؤيتها الجمالية: مدام دو بومبادور، عرّابة أسلوب الروكوكو، وواحدة من أبرز النساء اللواتي تركن بصمة ثقافية وفنية عميقة في بلاط لويس الخامس عشر.
غير أنّ غريفيثس سارع منذ البداية إلى توضيح أن الأمر لا يتعلق بصناعة دراما تاريخية على طريقة هيئة الإذاعة البريطانية. فالمجموعة ليست إعادة تمثيل للقرن الثامن عشرة بقدر ما هي محاولة لإسقاط حساسية تلك الحقبة على مزاج المرأة المعاصرة. وكما قال بنفسه: "نحن نخلق أزياء حديثة لنساء حديثات، ولكل إطلالة تحمل أثراً من الروكوكو، هناك أخرى تقف على النقيض تماماً".
بين 1780 و1980: حوار عبر الزمن
افتتح العرض بفستان ترنش بلا أكمام تزيّنه انتفاخات رومانسية على الكتفين، لتليه مباشرة بدلة أنيقة بخطوط صارمة، في إشارة واضحة إلى لعبة التوازن التي اعتمدها المصمم بين زخارف القرن الثامن عشر ومشهدية الثمانينيات. هذه الثنائية لم تتوقف عند حدود القصّات، بل انعكست في الزينة أيضاً. فالأزهار المصنوعة من الأورغنزا أو أكاليل الأقمشة المتدلية على الوركين والكتفين، بدت في بعض الأحيان وكأنها تحاكي أزياء الروكوكو بقدر ما تستحضر زي "البيرّو" الشهير الذي ارتداه ديفيد بوي على غلاف ألبومه Scary Monsters .
وجود بوي على لوحة الإلهام لم يكن صدفة، بل جزءاً من رحلة غريفيثس في الربط بين أيقونات الماضي والحاضر. فقد أشار إلى أن المجموعة "تحتفي بمدام دو بومبادور وكأنها امرأة معاصرة"، مؤكداً أن الحداثة والأناقة هما الهدفان الأساسيان للعمل.
الأزياء والجرأة الجسدية
إذا كانت بومبادور رمزاً للأناقة المترفة، فإن أزياء ماكس مارا الجديدة جاءت أكثر خفةً وإغراءً، إذ سيطر عليها حضور الجسد المكشوف. الكروب توب والجاكيتات القصيرة سلّطت الضوء على بطون مشدودة، في حين ظهرت الأكتاف العارية والظهور المكشوفة والسراويل القصيرة بكثرة. الإيحاءات الجريئة لم تكن مباشرة، لكنها حضرت عبر تفاصيل مثل الأشرطة السوداء المشدودة على الخصر أو تلك التي تحوّلت إلى أحزمة تشبه الهارنس ترفع قصّات الهالتر.
المفاجأة الكبرى كانت الغياب النسبي للمعاطف، التي تُعتبر العمود الفقري لهوية ماكس مارا. لكن غريفيثس لم يتخلّ عنها تماماً، فقدّم نسخة مبتكرة من معاطف الترنش القصيرة، إلى جانب بدلات ضيقة ستلقى رواجاً واسعاً بين عاشقات البساطة العملية.
الحد الأدنى يفرض كلمته
في خضم موجة الماكسيماليزم التي تكتسح عروض ميلانو، جاء عرض ماكس مارا ليؤكد ولاءه للبساطة والحد الأدنى. سيطر البيج والكاراميل على اللوحة اللونية، مع بعض اللمسات الموحية مثل الطبعات الزهرية الشبحية أو الرسوم البحرية التي بدت كاستراحة بصرية وسط صرامة الألوان الأحادية. النتيجة جاءت أكثر انحيازاً إلى النقاء والصفاء، وهو ما يضع المجموعة في موقع مغاير عن بقية العروض الإيطالية المفعمة بالتفاصيل والازدحام البصري.
غريفيثس بين الأمس واليوم
اللافت أن لوحة الإلهام لم تقتصر على صور بومبادور وبوي. فقد أضاف غريفيثس صورة قديمة لنفسه، مرتدياً سترة لامعة ضخمة الأكتاف صمّمها في شبابه للذهاب إلى نادي "بليتز" الشهير في لندن الثمانينيات. تلك اللحظة الشخصية استعادها المصمم اليوم لتصبح جزءاً من سردية المجموعة، مؤكداً أن الموضة ليست فقط عن التاريخ أو الرموز الثقافية، بل أيضاً عن تجارب ذاتية وصدى ذكريات شخصية.
والمفارقة أنّ السترة التي صمّمها في مراهقته على آلة خياطة والدته تضمنت على الكتفين وردتين صغيرتين من القماش، تفاصيل بسيطة لكنّها تكرّرت هنا كرمز يجمع بومبادور وبوي وغريفيثس نفسه في خيط واحد.
عرض ماكس مارا لربيع وصيف 2026 ليس عرضاً عن الماضي بقدر ما هو تأويل للحاضر من خلال الماضي. غريفيثس لم يسقط في فخ النوستالجيا ولا في فخ الترف المفرط. بل قدّم مجموعة تحتفي بالمرأة العصرية التي تستطيع أن تتبنى فخامة الروكوكو وخفّة الثمانينيات في آنٍ واحد، دون أن تفقد هويتها العملية والأنيقة. إنها مجموعة تؤكد أن ماكس مارا، رغم بساطتها الشهيرة، قادرة على التجدّد باستمرار، وأن الأناقة لا تحتاج إلى صخب كي تُحدث أثراً.
عملت في مجال الصحافة والكتابة منذ سن الـ16، خرّيجة كلية الإعلام والتوثيق في بيروت، أقيم في دبي منذ 14 عاماً، حيث أعمل اليوم كمحررة ومديرة لموقع gheir.com، أشرف على المحتوى وأهتمّ بإدارة العلاقات مع العلامات الكبيرة في مجال الموضة والمجوهرات والجمال والفنون الجميلة على أنواعها. أقوم أيضاً بمقابلات حصرية فيما يتعلق بإصدارات دور الأزياء والمجوهرات، وتنفيذ جلسات تصوير وفيديوهات خاصة بالموقع.